المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
قال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: [قوله: (والإيمان هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى).
تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته: ( حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي، وسأله عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وسأله عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وقد ثبت كذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ))[الكافرون:1]، و(( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام؛ التي في سورة البقرة: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ))[البقرة:136] والتي في آل عمران: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ))[آل عمران:64]) وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: ( آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم )، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا]
.
  1. عدم التزام الإمام الطحاوي بالتبويب والترتيب المنهجي في هذه العقيدة

    سبق أن قلنا: إن الإمام الماتن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله لم يلتزم في هذه العقيدة التبويب والتفصيل المنهجي الدقيق أو المنطقي، وإنما كتبها -رحمه الله- استرسالاً، وهي عقيدة فيها خير كثير، وفي ألفاظها بلاغة ووجازة، ولكن هذا لم يمنع من تداخل العبارات، وتباعد أطراف الموضوع الواحد كما في موضوع الإيمان، وموضوع القدر وغير ذلك، وهذه الفقرة مثال على ذلك.
    وموضوع الإيمان قد تقدم الكلام عنه في فقرات سابقة ومنها قوله رحمه الله: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، ثم بعد ذلك تعرض لموضوع الإيمان من جهة التعريف الاصطلاحي فقال: (والإيمان: هو الإقرار)، ونلاحظ في الموضع الأول وكأن الشيخ يريد أن يتحدث عن الأنبياء، لكن ذكر معهم غيرهم فقال: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، فليس هذا التكرار تكراراً مطلقاً، لكن فيه شيء من الخصوصية؛ لأنه قال في الفقرة التي قبلها: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً؛ إيماناً وتصديقاً وتسليماً).
    فناسب أن يذكر هنا بقية الأنبياء، فقال: (ونؤمن بالملائكة والنبيين..)، ولما جاء إلى هذا الموضع ذكر الإيمان لبيان حقيقته الاصطلاحية، أي: ما هو الإيمان في اصطلاح الفرق، فيذكر الفرق فيه بين اصطلاح أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، وتعرض الشيخ لهذه الفرق على هذا الأساس.
    وجاء بعد فقرة: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه)، والتي قبلها: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) وهي التي تحدثنا فيها عن قضية الرجاء والخوف، والتوازن بينهما، فهنا لما تحدث عن حال المؤمن مع ربه هل هو رجاء محض أم خوض محض؟ أم بين هذين، ثم تحدث بعد ذلك ما الذي يخرج العبد من الإيمان؛ لأنه قال: (ينقلان عن ملة الإسلام) فذكر ما ينقل العبد عن الإيمان، ثم ذكر تعريف الإيمان في اصطلاح أهل السنة والجماعة ، والشارح رحمه الله ذكر الخلاف في ذلك، وتعرضنا له بالتفصيل.
    ثم قال هنا: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى).
    ونلاحظ هنا أمرين: الأول: أنه ذكر القدر، فكأن هذا الموضوع مدخلاً للحديث عن القدر، والأمر الآخر: أن الإمام الطحاوي أثناء كتابته تأتيه مواضيع العقيدة تباعاً، فهو بعد ذلك يبدأ في موضوع أهل الكبائر، فقال: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين؛ بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه…)، فالحديث عن مرتكبي الكبائر، والكلام في الكبائر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة في ذلك، وما يأتي بعد ذلك من الكلام عن الصلاة خلف البر والفاجر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة ممن ضل من الفرق في هذا؛ كل هذا ناسب أن يعيد الإمام الطحاوي بيان حقيقة الإيمان.
    إذاً فذلك -كما يبدو- من أجل أمرين:
    الأول: التمهيد لموضوع الكبائر.
    والثاني: أنه ذكر فيها القدر، وسيأتي بعده الكلام عن القدر، وقد تعرض الشارح لمسألة القدر في الشرح كما سيأتي إن شاء الله.
  2. الألفاظ الشرعية يعاد في تعريفها وتوضيحها إلى الشرع

    وكلمة (الإيمان) كلمة واحدة، ومع ذلك عرفها الإمام الطحاوي فقال: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، وناقشنا هذا التعريف، وهنا قال: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله…) إلى آخره.
    فهو في الأول يتحدث عن الإيمان في حقيقته الاصطلاحية، وهنا يتحدث عن الإيمان كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إشكال عندنا في بيان حقيقة الإيمان بعد أن فصلنا فيها القول، لكن نعيد ونوجز فنقول: إن (الإيمان) لفظة شرعية، وكل ما جاء به الشرع فتعريفه يؤخذ من الشرع، لا من مجرد اللغة، ولا من كلام اللغويين، ولا من غيرهم من العلماء، فما جاء معرفاً في لسان الشارع فإننا لا نحتاج معه إلى مجرد اللغة، فلا نقول: في اللغة كذا، فكثير من الناس يضل عندما يقول: الإيمان في لغة العرب هو التصديق، أو الناس يقولون: نؤمن بالبعث، أي: نصدق؛ كما فعل الباقلاني وغيره.
    فنقول: لا، نحن لا نرجع إلى أحد من هؤلاء، فالألفاظ الشرعية يؤخذ تعريفها من الشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عرف الغيبة، فقد سئل: ( ما الغيبة؟ فقال: ذكرك أخاك بما يكره )، فالشيء الذي يحرمه صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه فإنه يعرفه لنا، وكذلك الإيمان هنا، فقد قال لوفد بني عبد القيس: ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده )، ثم عرفه، فلا يؤخذ التعريف من غيره.
  3. بيان الشرع للإيمان أعظم من بيانه للأمور الأخرى

    وتعريف الله ورسوله للإيمان، وبيان الكتاب والسنة له أعظم من بيان أي أمر آخر من أمور الدين، فهو أعظم بياناً من الصلاة ومن الزكاة كما سيذكر الشارح رحمه الله؛ لأن الصلاة أكثر ما بينتها هي السنة، وكذلك الزكاة، وإنما جاء في القرآن الأمر بهما، والحض عليهما، وذكر بعض أعمالها من الركوع والسجود، وأما كيفية الصلاة تماماً فإنما بينتها السنة، وأما الإيمان: فبيانه وحقيقته وما يشتمل عليه جاءت مفصلة في القرآن في آي كثيرة جداً، فتبين القرآن له أعظم من بتيينه الصلاة وغيرها؛ لأنه أهم من كل الأعمال، إذ لا يصح أي عمل إلا به.
  4. عظم آيات الصفات وشرفها في القرآن

    ومن ذلك: الإيمان بالله الذي جاء تفصيله في آيات الصفات جميعاً، وهي أفضل وأشرف ما في القرآن، فأفضل وأشرف آيات القرآن هي التي تعرف الناس وتبين لهم صفات الله تعالى، فمثلاً آية الكرسي هي أفضل آية في كتاب الله، وهي عشر جمل، وكل جملة منها هي تعريف بالله، قال تعالى: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ))[البقرة:255]، وكل جملة تبين لنا من صفات الله، ومن العلم والحقائق ما لو لم تفكرنا فيه وتأملناه، واستدللنا عليه بآيات وبأحاديث أخرى لرأينا أن هذه الآية جمعت أمراً عظيماً جداً، ولهذا كان لها من الشأن ما لها وكذلك سورة: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1] التي تعدل ثلث القرآن، وكذلك سورة الفاتحة، وهي أفضل سورة، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم؛ كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
    إذاً: نلاحظ من هذا أن أفضل ما في القرآن هو ما يتعلق بالإيمان، وهو أكثر ما بيِّن، وأكثر شيء وضوحاً في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو: الإيمان بالله، وبالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، ولهذا نعجب من اختلاف الفرق وتباينها في حقيقة الإيمان، وما علاقته بالعمل، وما حكم تاركه، وغير ذلك من الخلافات التي أحدثت، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
  5. الاختلاف بين التعاريف الشرعية والتعاريف المنطقية

    فالشيخ -رحمه الله- عرف الإيمان هنا بما عرفه به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، ولا يقال: إن في هذا التعريف مصادرة على المطلوب، كما يقول المناطقة: إنه لا يصح أن يعرف الشيء بنفسه، فلو قيل لك: عرف العلم؛ فقلت: هو العلم بكذا وكذا، قالوا: لا يصح؛ لأنك عرفت العلم بنفسه، فلا بد أن تعرفه بغير كلمة العلم، وإنما بشيء يعرف به العلم، لكن في هذه الحالة نقول: إن الأمر هنا ليس من هذا الباب، فليس المقصود في التعريفات الشرعية بيان حقيقتها، أو ماهيتها المجردة على الطريقة المنطقية، وإنما المقصود: هو بيان معناها الشامل العام؛ لأن كلمة (الإيمان) ليست غريبة على العرب، وكذلك الصلاة والزكاة وغيرها؛ فهي من كلام العرب، لكن الشرع يأتي لها ببيان جديد شامل قد ينقل اللفظ من معناه القديم إلى غيره كالصلاة والزكاة مثلاً، فما كان العرب يعرفون أن معنى الزكاة،: دفع مال مخصوص، وإنما الزكاة في اللغة: هي النماء والطهارة وما أشبه ذلك، فنقل الشارع المعنى إلى إخراج جزء من المال في سبيل الله، لكن أصل المعنى معروف عندهم.
    وأما الإيمان فلديهم معناه لكنه ضيق المفهوم ومحدود، فالناس كانوا يعرفون أن هذا مؤمن، وأن هذا غير مؤمن من خلال كلام أهل الكتاب وغيره، أنه يؤمن بكذا ولا يؤمن بكذا، ثم جاء الشرع فبين ذلك بياناً وافياً شاملاً.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما عرف الإيمان قال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته )، و(أن) والفعل معناهما المصدر، فأن تؤمن هو الإيمان، فليس هذا من جنس ما يذكره المناطقة وغيرهم، وإنما هو إيضاح للحقيقة الشرعية.